المطلب الثاني: التحديات الخارجية:
بعد الحديث عن التحديات التي تواجه التعليم العربي الإسلامي في مالي من الداخل, والتي هي في الحقيقة تُمثّل أعظم عقبة تعرقل التعليم عن مساره الصحيح, ننتقل إلى التحديات الخارجية التي تواجه التعليم, وهي في مرتبة أقلّ, وليس كما يراه الكثير, ولكن لا أنكر أنّ لهذه التأثيرات أيضا وقعها الكبير على مجريات أمور التعليم العربي الإسلامي, وتتمثّل هذه التحديات في الأمور التالية:
أولا ــ دور الحكومات: فهي لا تختلف كثيرا عن دور الاحتلال تجاه التعليم العربي الإسلامي, في الحَدِّ من انتشاره, والسّعي لتذويب هذه المدارس عن هويتها وأهدافها, وذلك بتمويله بالنَّزْر اليسير ووفق شروط تبتعد به عن أهدافه وتفرغه من مضمونه الحقيقي, ولأجل الهيمنة الثقافية والفكرية أتت بفكرة التعليم العربي الفرنسي ( Franco _ arabe ), وتتمثل عداوة الحكومة للمدارس في عدة أمور أبرزها:
1 ـ الحد من نسبة الالتحاق بقسم اللغة بجامعة بماكو وفي قسم إعداد المعلمين.
2 ـ عدم الاعتراف بشهادات التعليم العربي كمثل قريناتها في المدارس الفرنسية.
3 ـ عدم توظيف خريجيه وحرمانهم من أيّة مساعدة مالية بصفة عامة.
4 ـ فتح القسم الفرنسي في المرحلة الثانوية فالدراسة فيه تكون بالفرنسية ما عدا المواد اللغوية, وقد رأى الطلبة أن من المفروض أن يفهموا الفرنسية للالتحاق بالمدارس الفرنسية. وهذا يعتبر القضاء النهائي على التعليم, فيتسرب الطلبة تلقائيا من التعليم العربي إلى التعليم الفرنسي, لأن فرصة المتابعة غير متاحة في الجامعات العربية أو الدّولية.
وكدليل على عداوة الحكومة للغة العربية, المؤتمر المنعقد في بماكو عام 1966م, لتوحيد الكتابة في اللغات الإفريقية بالحروف اللاّتينية في غياب الحضور العربي كليا في هذا المؤتمر. مع العلم أن اللغة العربية هي التي أعطت الكتابة وسجلت الحضارة لشعب غرب إفريقيا, فطوي الحرف العربي, ليحل محله الحرف اللاتيني.
ثانيا ــ التعليم الحكومي:
التعليم الفرنسي المجاني المزوَّد من الحكومة بالمال والكفاءات, وفتح العديد من المدارس الفرنسية في المناطق وحتى في القرى يجعل العديد من الأولياء يفضلون تعليم أبنائهم فيه على حساب المدارس العربية الإسلامية.
فبناء على ما سبق يمكن القول: إنّ الاحتلال موجود بحذافره, ويحمل في طياته كلّ الضغائن للمدارس, وتستعمل كل الأساليب لإماتها, ولكننا نجد في الجهة المقابلة وأقصد به أبناء الضاد والقائمين على الثقافة العربية من أبناء الوطن تخاذلا فاضحا, وقضي على التعليم العربي الإسلامي في مرأى الجميع ومسمعهم.
ثالثا ــ ضعف معظم الجامعات العربية والإسلامية:
أقبل طُلاّب دول غرب إفريقيا على الجامعات الإسلامية في البلدان العربية والإسلامية التي تختلف مناهجها ورؤاها الفلسفية, فَمُنِيَ الشّباب الإفريقي بخيبة الأمل, فالتعليم الذي جاءوا من أجله, لم يكن في المستوى المطلوب, لأنّ المواد التي تدرس في أغلب المعاهد والجامعات الإسلامية لا تفي الغرض في هذا العالم المعقد بعلومه ومناهجه, إذن لماذا لم يكن في مستوى الطموح؟ لأن الجامعات الإسلامية تكتفي بتعليم هؤلاء الشباب العلوم الدينية فحسب, ولا يكون لهم علاقة بالدراسات والمجالات الأخرى, مع أنّنا نجد أن الدين يرتبط بكامل حياة المسلم, وفي حقيقة الأمر بعض الجامعات الإسلامية ليست جامعة إلا بالاسم, لأنّه لا علاقة بمناهجها العلمية وإطارها التربوي ورؤاها الفلسفية وسياساتها العلمية بالإسلام كرؤية كونية شاملة, فكانت النتيجة وخيمة على المثقف الإفريقي, أو المستعربين, وعلى الإسلام الذي يَدينون به, فحصر تعليم اللغة العربية في المجال الشعائري, فلا وجود له في الساحة السياسية والمحافل الدولية, كل هذا جعل الرسم البياني للدراسة العربية الإسلامية في غرب إفريقيا في حالة هبوط مستمر, فأصبحت المدارس الآن يرثى لحالها, وتظهر ضعف الجامعات الإسلامية في شيئين أساسيين هما:
1 ــ المنهج: إنّ ضعف مناهج الجامعات الإسلامية والعربية لم يعد خافيا على القاصي والداني, ويكفي أن تذهب إلى دائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين, لِتَجد نفسك في بحر المعلومات, وأمّا أطروحات الجامعات الإسلامية, ستجدها عبارة عن نُسَخ منسوخة بعضها من بعض.
2 ــ عدم الربط بين الجامعة وخرّيجيها: ليس بمخطئ من قال إنّ علاقة الطالب الجامعي بالجامعات الإسلامية تنحصر في فترة الدراسة فقط, فبمجَرَّدِ تخرُّجه تنقطع بينهما العلاقة, ونقصد هنا, إهمال الجامعة طُلّابها, فلا تخلق شبكة من الفرص والعلاقة العلمية, من مشاركات في الندوات وغيرها, بل لا يَهمُّها وجودهم ولا ظروفهم المعيشية, ناهيك عن الأثر الذي يحدثونه في مجتمعاتهم, وهذا ع**** ما تقوم به
الدول الغربية, بحيث توفر الإمكانيات اللازمة, وتساعد طلبتها وتكونهم، لذا نجد المتخرّج من الجامعات الإسلامية والعربية أقل كفاءة من الطلبة الآخرين, أي الذين تخرجوا من الجامعات الغربية.
رابعا ــ تيار العولمة: فبعد هجوم الدول الكبرى على الجانبين السياسي والاقتصادي للدول الإسلامية, جاء الدور على الجانب الاجتماعي, فوجهوا سهام الحملة على تعليم اللغة العربية, فبدؤوا بتجفيف مواردها, بدعوى محاربة الإسلاميين, والمؤسسات التعليمية في دولة مالي لم تكن تعتمد إلاّ على المساعدات الخارجية فقط.
سادسا ــ غياب المساعدات الخارجية:
أصبحت المدارس العربية معزولة عن الأم التي أتت منها الثقافة العربية والإسلامية, فلا الحكومة ولا الجمعيات الخيرية تسعى لأجل النّهوض بها, فالمدرسة تعيش في أوساط معادية للثقافة الإسلامية بما فيها اللغة العربية, لأن أهداف هذه المدارس تتنافى مع أهداف نظام الحكم القائم في الدولة, وبالتالي ليست المدارس التعليمية مدعومة من الدول العربية والإسلامية, كما نرى مثل هذه المساعدات في المدارس الفرنسية المسيحية الكاثوليكية Ecole Catholique فمعظمها تجد دعما ماديا ومعنويا من الجهات الكاثوليكية الخارجية, سواء من داخل إفريقيا أو من الدول الأوروبية, فكل مؤسسة كاثوليكية تربوية تجد لها مساندا من الخارج ع**** هذه المدارس الإسلامية, هذا بصفة عامة, وليس الغرض من هذا التقليل من أعمال بعض المجهودات الدولية أو الفردية من الدول العربية أو الإسلامية, من هنا ينبغي الإشارة إلى أنه توجد بعض الجمعيات التي تقف بجنب التعليم العربي, كجمعية الدعوة الإسلامية العالمية الليبية التي لها نصيب الأسد في دعم المؤسسات التعليمية وحتى الأساتذة, فمن أعمالها على سبيل المثال: إنشاء المركز الإسلامي الذي يتم فيه تعليم التدريب المهني في بماكو العاصمة, والتكفل بـ: 515 أستاذا, توزيع الكتب اللغوية وكتب التربية الإسلامية, وأما منظمة الإيسيسكو( ISSESCO) فلها دور إلاّ أنه أقلّ بكثير، ومن أعماله إنشاء بعض المكتبات, غير أنّ مُعظم كتبها تاريخية ولغوية, وما كنت بدعا في هذا, فكل الأساتذة قدموا شكرهم للجمعية الليبية, ولم يذكروا الإيسسكو إلا عند تطرقهم إلى ذكر المكتبة.
لقد أشار الكثير أن على الدول العربية أن تتحمّل نصيب الأسد في دعم المدارس كبشير عبد الواحد بشير حيث قال: «وإلى متى نرهن مصير التعليم العربي الإسلامي لجهود وإمكانيات الأهالي الأفارقة البسطاء؟», كما قال البعض: «إنّ على العرب أن يساعدوا لغتهم», هذه الآراء فيها جانب من الصواب, ولكن حسبما يبدو لي أننا نُحَمِّل الآخرين كلّ المسؤولية دون أن ننظر إلى دورنا فيها, فعلينا أن نعتمد على أنفسنا أولاّ, ثم على الآخرين ثانيا, ولكن عندما نعتمد كُلِيًا على الآخرين فلن نُحَقّق نتائج مرضية, وقد أكّد كجيرى على هذه النقطة بقوله: «على أصحاب المدارس أن يعتمدوا على أنفسهم, ولا أرى أن يقولوا للحكومة أعطونا مدرسين». فبناء على هذا, لا أرى أن نقول للدُول العربية والإسلامية أعطونا مساعدات, ولم نفعل شيئا.
أخيرا يمكن القول إنّ لكلٍ واحد دوره في تحمُّل المسؤولية, يستوي فيها القائمون على هذه المؤسسات التعليمية وأفراد المجتمع, كما أنّ للدّول العربية والإسلامية دورها أيضا في تقدُّم التعليم العربي الإسلامي في دولة مالي, فقد بات واضحا عدم كفاية الموارد المالية المخصَّصة للمدارس التعليمية، سواء من مصادر تمويل المدارس, أومن تبرُعات الجمعيات الخارجية, كلّ هذه العوامل وخاصة غياب التمويل الذي يُمثل عصب الحياة في المؤسسات التعليمية, جعل التعليم العربي الإسلامي أفقر من جميع الفئات التعليمية, وخاصة أنّ معظم روادها من أبناء الطبقة الفقيرة.